أطياف

الحياة مدرسة.. أستاذها الزمن ودروسها التجارب

الأربعاء، 27 مارس 2024

دعوة لتحطيم الأوثان

    القلب ما سمي قلباً إلا لأنه منقلب من حال إلى حال، لا يثبت على حال واحدة، كما في الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد في مسنده:" إنما مثل القلب كمثل ريشة معلقة في أصل شجرة يقلبها الريح ظهراً لبطن ".  وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم – يكثر من دعاء: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، حتى قالت له أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها -: يا رسول الله، إنك تدعو بهذا الدعاء. قال: يا عائشة، أو ما علمتِ أن القلوب، أو قال: قلبُ بني آدم بين إصبعي الله، إذا شاء أن يقلبه إلى هُدى قَلَبه، وإذا شاء أن يقلبه إلى ضلالة قلَبَه؟

    الأحداث تتوالى علينا وتتعاظم، وفي الوقت ذاته تتعقد وتتشابك بسببها الرؤى والمفاهيم والقناعات حتى يقع كثيرون في حالة من الالتباس شديدة، فقد يرى أحدنا في لحظة ما، الباطل حقاً والحق باطلا، وإن اختلفت النسب والدرجات، بحسب البيئة التي يكون أحدنا فيها والمؤثرات من حوله. فما نراه أمامنا من مشاهد ومواقف متنوعة متقلبة للبشر، تجعل أحدنا يقف مشدوهاً حذراً ويبدأ تلقائيا يردد دعاء تثبيت القلب، ليس لشيء إلا لأن المشاهد الواقعة والفتن الحاصلة الآن من حولنا صادمة شديدة الوقع على النفس، تجعل الحليم حيرانا.

   الثبات على الحق ليس بذاك الأمر الهين، فالتنظير فيه أو الحديث حوله، كتابة أو شفاهة، يختلف كثيراً عن فعل البقاء والثبات على الحق والتمسك به. وربما في حالات الهدوء والسكينة والاستقرار تتساءل عن السر في كثرة تعظيم البعض منا لأمر الثبات على الحق، وأهمية التمسك به وخصوصاً أن الأمور واضحة لا تدعو للخشية من التحول عنه، فتتساءل عن هذا الإلحاح والاستمرار في دعاء تثبيت القلب، وهل هناك فعلاً فتن ومواقف يمكنها خلع القلب عن مكانه ويتغير كما نقول في الرياضيات 180 درجة؟

  مع تكاثر الأحداث اليومية المرتبطة بخلافات ومشكلات، وتنوع المواقف أو الفتن تجاهها، ما ظهر منها وما بطن، ستدرك من فورك سبب ذاك التعظيم أو تكرار الحديث عن الحق وضرورة الثبات عليه. فما إن تضطرب الأمور حولك وتختلف، وتنفتح أبواب الفتن من كل جهة، ستبدأ تعي الأمور تدريجياً ويتضح لك ما يجري حولك.

   لكن وباختصار شديد، وقبل أن نتعمق أكثر في التفاصيل، أو تتحول أنت عن تكملة بقية المقال لأي سبب، أدعوك ونفسي أولاً وآخراً، إلى وجوب عدم الركون إلى علمنا ومالنا وحسبنا ونسبنا في مسألة الثبات على الحق. ذلك أن شواهد التاريخ حول هذه المسألة أكثر مما يمكن كتابتها هاهنا. فمن تحولوا عن الحق إلى الباطل في فترة ما من حياتهم، سواء استمروا أم عادوا إلى رشدهم، كانوا على علم وفهم كبيرين، ومع الحق قلباً وقالباً أينما كانوا وحلوا، يدافعون عنه ويدعون إليه في كل مناسبة. لكن بفعل ظروف حياتية معينة وقعت لهم أو حولهم، وجدت قلوبهم تتغير تدريجياً حتى الكفر بما كانوا عليه، بل وربما وجدت بعضهم وقد انقلب على أعقابه خاسرا. الأمر ليس بدعة، وليس بالأمر الجديد في تاريخ البشر.

 

·      ما العمل إذن؟

    كما بدأنا الحديث وقلنا بأن القلب ما نسميه قلباً إلا لأنه يتقلب ولا يستقيم على حال، فإنه لم يكن به من شحنات وكميات كافية من اليقينيات والمثبتات، فإن رحلة انقلابه تمر سريعاً سريعاً، وستتغير تبعاً لذلك مواقف صاحبه بالمثل سريعاً.  لكن هل يعني أن كل انقلاب للقلب سيئ. بالطبع لا، لأن القلب إذا وجدته ينقلب أو ينتفض على أمور حياتية سلبية سيئة، فسيكون انقلابه جميلاً محموداً، بل ومرغوبا. لكن الإشكالية لو أن انقلابه كان على أمر في الدين على وجه التحديد، فها هنا يصبح القلب وانقلابه في خانة خطرة.

    من هنا، أجد أهمية الانتباه والتثبت وقت صناعة مواقف حياتية معينة لك، بناء على مواقف وآراء الأحياء من البشر، علماء أم مفكرين أم مؤثرين أم غيرهم. لماذا الانتباه والتثبت؟ لأن أحدهم لا يؤمن عليه من الفتنة أو انقلاب القلب عنده، فتجد نفسك في حال فتنتهم وانقلابهم في حيرة بسبب ذاك التغيير الذي حصل لهم، وبالتالي تجد نفسك - إن كنت من المقتنعين بأولئك المنقلبين - مضطراً إلى هدم ما صنعته من مواقف، أو أنك تساير المنقلبين، سواء كانوا على حق أم باطل.

   هذا الأمر لابد أن يدفعك - إن شئت طبعاً في بناء وصناعة موقف شخصي لك - أن تختار مستقبلاً، المواقف السليمة الصحيحة تجاه أمر من الأمور وفق قناعات تستنتجها أو تستلهمها من مواقف أناس هم عند ربهم الآن.. فمن المؤكد أن مواقفهم لن تتغير أبداً.

   هذه دعوة خالصة لعدم التشبث بأصنام أو أوثان على شكل بشر أو مفاهيم أو نظريات وأيدولوجيات أو غيرها، بل الأصل هو التشبث بالحق أينما كان وعلى أي صورة يظهر. وليحرص كل منا على أن يظل قلبه حياً واعياً حذراً من الميل والزيغ، مرة إلى هنا ومرة إلى هناك. وإن كثرة الدعاء والابتهال إلى مقلب القلوب، من أسباب الثبات على الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا.

الخميس، 30 نوفمبر 2023

هي حسرة وندامة

  


  هي موجعة مؤلمة، تلك المشاعر التي تنتاب كثير من البشر يوم القيامة في مواطن الحسرة والندامة، المذكورة بالقرآن الكريم في مواطن عدة، حتى تكاد تشعر بها وأنت تقرأها وتتأملها، بل يكاد يعرفها كل الذين سيعيشون تلك المواقف يوم القيامة، والذين لا زال بإمكانهم تجنبها والابتعاد عنها قبل فوات الأوان، ولكن مع ذلك لا أحد منهم يعي ويتفكر؟

ولنبدأ موضوعنا دون كثير مقدمات..

 

  تأمل مثلاً قوله تعالى في سورة فصّلت ( وقال الذين كفروا ربنا أرنا اللذين أضلانا من الجن والإنس نجعلهما تحت أقدامنا ليكونا من الأسفلين ) . تكاد تشعر بالغل الذي في قلوبهم وهم يدعون الله أن يجمعهم بمن كانوا سبباً في وضعهم الحالي. يريدون أن يجعلوهم تحت أقدامهم، يفرغون ما بنفوسهم عبر الضرب والدوس بالأقدام.


   هكذا حالهم يوم القيامة بعد أن كانوا يُعْرضون عن الهداية في دنياهم، وأتبعوا أهواءهم وأمزجة من يريدون اليوم الدوس عليهم، من الإنس أو الجن، الذين مارسوا عليهم الإضلال، وزينوا لهم الكفر والفسوق والعصيان - كما جاء في تفسير الوسيط للطنطاوي – يريدون الانتقام منهم بأن " ندوسهم بأقدامنا احتقاراً لهم، وغضباً عليهم، ليكونوا بذلك في أسفل مكان من النار، وفى أحقره وأكثره سعيرا. لتتحول الصداقة التي كانت بين الزعماء والأتباع في الدنيا، إلى عداوة تجعل كل فريق يحتقر صاحبه، ويتمنى له أسوأ العذاب".

هكذا حالهم في النار وهم يتلاومون.


حوار جهنمي

  مشهد آخر في السياق نفسه، هو حوار وجدال بين الأتباع والمتبوعين ( وإذ يتحاجون في النار فيقول الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا نصيبا من النار ). مشهد فيه الكثير من الندم، بل يمكنك أن تطلق عليه مشهد الحسرة والندامة - إن صح التعبير -  بين فريقين من أهل النار- أعاذنا الله وإياكم منها - فريق دعاة الكفر والشرك والضلال، وفريق الأتباع الذين اتبعوا زعماءهم وسلاطينهم دونما تفكير في حق أو باطل.

   تراهم يوم الحساب يتجادلون ويتلاومون ( ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول . يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين ). هكذا يعتقد الأتباع أن سبب حالتهم التي يكونون عليها يوم الحساب والكتاب، هو أولئك الذين أتبعوهم من السادة والقادة، ولولاهم لاتبعوا الأنبياء والمرسلين.

 

  السادة أو القادة في ذلكم الموقف لن يكونوا صامتين ( أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم بل كنتم مجرمين ) أنتم اخترتم المتابعة ورضيتم ذلك عن طواعية ودون تدبر للأمور والمآلات. فيرد الأتباع ( بل مكرُ الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أندادا) ! لينتهي ذلك الجدال العقيم بالندم على ما كان منهم، الأتباع والمتبوعين على حد سواء (وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا هل يجزون إلا ما كانوا يعملون).


  لا شك أن الآية الكريمة إشارة قرآنية تدعو إلى أهمية اتباع الحق وليس الرجال - على صورهم المختلفة - قادة، ساسة، زعماء، ملوك، سلاطين، مفكرين، منظرين ومن على شاكلتهم.. الحق والحق فقط وأينما كان، هو الذي سينجيك وإن قل عدد تابعيه. فيما الباطل يخذلك دون أدنى ريب وإن كثر عدد متابعيه.


  الحوار الجهنمي ذاك يدور بين أتباع ومتبوعين. كل فريق يريد أن يُبعد عن نفسه التهمة، فالعقوبة المنتظرة قاسية ومؤلمة، والتخلص من أي تهمة تعني الكثير لهم يومئذ.. حتى إذا ما وجد الأتباع أنهم هالكون لا محالة، كما حال المتبوعين، دعوا الله ساعتها بمضاعفة العذاب لأولئك القادة والزعماء ومن على شاكلتهم، أو دعاة على أبواب جهنم ( ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعناً كبيرا ). هذا جل ما يمكن القيام به والتعبير عما بنفوسهم من غيظ وقهر تجاه من ظنوا أن متابعتهم في الدنيا، ستغنيهم وتصلح بالهم !

  

فلا تلوموني

  مشهد ثالث أخير يستحق التأمل، وذلك حين يتفاجأ أتباع إبليس في الدنيا من الإنس أو حتى الجان، الذين اتبعوا خطواته لحظة بلحظة، وخطوة بخطوة، ظناً واعتقاداً منهم في صلاحها وفائدتها، فإذا هم بالشيطان وقد صار أول من يتبرأ منهم ومن أعمالهم ( وقال الشيطان لما قُضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ).  


   الشيطان الذي هو أصل كل الشرور في الدنيا، يبحث بنفسه عن ذرة رحمة تنقذه مما فيه يومئذ، فيجد أتباعه من الإنس على اختلاف مذاهبهم وأديانهم ومعتقداتهم، يلومونه على ما هم فيه بسببه، فيبين لهم حقيقة الأمر التي تمثلت في الخير الذي حمله الأنبياء والمرسلون ومن سار على دربهم، والشر الذي زيّنه لهم وأغواهم حتى اتبعوه دون أي ضغط أو سلطان له عليهم. ذلك أنهم، وبدلاً من قبول دعوة أولئك الخيرين، جاءوا برغبة منهم إليه، وهم يعلمون تحذير خالقهم لهم بعدم اتباع خطوات الشيطان، ومع ذلك ساروا على الدرب الشيطاني، حتى آلت أمورهم إلى ما هم عليه الآن.. جهنم وبئس المصير.     


  هكذا إذن النتيجة النهائية.. وهكذا حال من يعطل حواسه وعقله ويتبع أهواء غيره، ويغتر بالكثرة وبالمال والقوة المادية عند البعض، فيقرر متابعته دون قليل تأمل وتدبر خطورة المآل، وهو ما كان يشجع ويعزز الفريق الأول في الاستمرار على نهجه، منطلقاً من وهم وغرور السيطرة وهو يرى عدد متابعيه يزداد، فيتجبر ويتكبر ويزداد غروراً حتى تكون نهايته أليمة هو أيضاً، ليذهب الجميع خلف الشيطان كما كانوا خلفه في الدنيا، إلى حيث الحسرة والندامة.